14‏/07‏/2011

رهان على الشعب

منذ زمن بعيد، نراهن على أن الأمل الحقيقي والوحيد لمصر هو الشعب، لأنه المتضرر الوحيد مما يحدث لمصر، وفيها.. الأمل في الشعب لأن فيه هذا السر الغريب، سر القدرة على البقاء، وابتكار طرق ووسائل للتغلب على كل منغصات الحياة، والقفز على أي معوقات يبتكرها المسؤولون، المناط بهم – كما هو مفترض- تأمين حياتهم ومستقبلهم، والعمل على رفاهيتهم.
هناك سؤال كان يتكرر كثيرا في الماضي، قبل قيام الثورة، لماذا يصمت المصريون على سياسات الإفقار والإذلال التي تتعمدها السلطة، سلطة تتجاهل أن هناك كيانا اسمه الشعب، وتشعر أن هذا الشعب عبء على كاهلها، تشعر به وكأنه زائدة دودية.. وتعترف به إلا حين تحتاج إلى ذكره كلازمة لغوية، أو كديكور مكمل للمشهد، وفي أحسن الأحوال يلجأون لذكره كعنصر يؤكد مكانتهم السيادية أو الرئاسية أو القيادية، وإلا فكيف يكونون قادة ورؤساء وكبارا إن لم يكن هناك من يتسيدونه ويترأسونه ويقودونه.. هل سيتسيدون الهواء؟
عقود طويلة عاشها الشعب المصري وهو يعرف بحدسه الفطري إنه مستهدف من رؤسائه في أي مكان ومجال وعلى أي مستوى، مستهدف في رزقه ولقمة عيشه، في حاضره ومستقبله، مستهدف في وعيه وعقله ووجدانه، يعلم أن مايتعلمه الأبناء على مقاعد الدراسة خطل وهطل وهبل وعبط، وأن علاجه إذا مرض هو علاج منزوع الترياق، لأن الطبيب مشكوك، في علمه، ثم في نواياه وإخلاصه لمهنته، والدواء الذي يحدده له الطبيب ليس دواء حقيقيا، إنما هو دواء مغشوش، وفي أحسن الأحوال دواء غير فعال، يفتقد نسب التركيز العالمية، حتى يكون سعره رخيصا نسبيا.. وإذا ما أراد الانتقال من مكان إلى آخر وجد نفسه محشورا في علب ذات عجلات أربع، تسمى باصات أو ميكروباصات، تفتقد الشروط الدنيا للآدمية، أهم مايميزها ضخها كميات هائلة من العادم.. ناهيك عن الشوارع ذات الحفر أرنبية التوالد، حفرة تلد حفرا، وأكوام المهملات تزين الشوارع على الجانبين، أو تشكل سورا عاليا بين نهري الطريق.. وناهيك عن تلوث الهواء والماء والطعام، واختلاط المارة بالسيارات والموتوسيكلات الحمير والأحصنة والبغال التي تجر عربات الكارو، غير المعجزة الصغيرة –التوك توك- وكله ماشي على رأي محرم فؤاد، وأحيانا على رأي فؤاد المهندس.
كنا نتساءل عن هذا الصمت الرهيب للشعب المصري أمام الإهانات المتكررة في حقه، وما إذا كان يشعر بها أم أنه اعتاد الأمر، اعتادت عينه مشاهد القبح المتكررة أمامه، ومنكر الأصوات التي تصم الآذان، والروائح الكريهة التي تفوح من أطنان القمامة وسحابات الدخان الأسود.
التفاصيل ليست مخجلة، فما عاش من يخجل من واقعه، لكنها حقائق مفجعة، تستوجب محاكمة المسؤولين عنها أمام كل محاكم الدنيا، والتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية.. هي التفاصيل التي تؤكد أن المسألة لم تخرج عن فلسفة مصر وفلاحها البسيط المعدم من كل شئ سوى الإيمان بالله وبأرضه التي علمته الصبر الطويل.. "الصبر على جار السو.. يايرحل او تيجي له داهية تاخده"، وقد جاءت الداهية عاصفة مدوية، صنعها بنفسه وبروحه، مثبتا أن صمت الماضي لم يكن قناعة أو تواكلا أو تكاسلا، لكنه المرجل الذي ينتظر الوصول لدرجة الغليان.
ولأن مرجل الشعب المصري غلى و"فار" فأنتج ثورته التي "استوت" على نار هادئة لسنوات طويلة، فإنه ليس مستعدا للتنازل عنها طواعية وإهدائها لذيول الماضي، مهما تبدلت ألسنتهم وأزياؤهم، فالشعب كله في معسكر واحد متسع لحماية نبتته التي بزغت بعد سنوات المر.. التحرير لان ليس بقعة أرض في قلب القاهرة، فقد أصبحت مصر كلها ميدان تحرير..

ليست هناك تعليقات: